وجَّه الأستاذ الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، تعازيه القلبية للحكومة والشعب الصربي، على الخسارة الفادحة بفقدان أطفال ومواطنين صربيين في حادثتَي القتل الجماعي في ٣ و٤ من شهر مايو الماضي.
وقال خلال محاضرة له بجامعة بلجراد العريقة: “إن الجهود الملموسة والمتميزة التي بذلتها الدولة الصربية في القضاء على التعصب الديني ونشر التسامح والمحبة بين مواطنيها دون تفرقة على أساس الدين، تستحق الإشادة والتقدير من كل إنسان منصف، حيث لمستُ منذ اللحظة الأولى لوصولي إلى بلجراد، مدى اندماج المُسلمين والمسيحيين الصرب في النسيج الوطني لصربيا، وعدم التمييز على أساس ديني في كافة الأمور الحياتية اليومية للمواطن الصربي”.
ووجَّه فضيلة المفتي كلمته إلى طلاب الجامعة مؤكدًا أن المسئولية الأخلاقية والدينية الملقاة على عاتق القادة الدينيين في العالم تجاه قضية دعم قيم التعايش المشتركة بين الأديان كبيرة وثقيلة؛ لأن القادة الدينيين على اختلاف أديانهم محل احترام وتقدير من جميع الناس بلا استثناء، نظرًا لما يتمتعون به من سمو الهدف ورفعة الرسالة وأيضًا من التنزه عن الأطماع السياسية والدنيوية، ولما أقامهم الله فيه من مقام رفيع لنشر القيم والأخلاق السامية بين الناس.
وأضاف: لذلك كان لزامًا عليهم أن يقودوا مسيرة إصلاح الخطاب الديني، والابتعاد به عن دائرة العداء والصدام التي تبنَّتها بعض العقول المتطرفة التي نزعت إلى نشر القيم الشاذة المتشددة التي تتنزه عنها جميع الأديان، ومن أجل تحقيق هذه الغاية الكريمة السامية لا بدَّ من التعاون بين القادة الدينيين في العالم من أجل توحيد الرؤية وتحديد الوسائل المناسبة، وعمل برامج مدروسة ومنظمة من أجل جمع قلوب الجماهير الغفيرة على نبذ التعصب والعنصرية والبعد عن التمييز على أساس الدين، وقبل ذلك وبعده لا بدَّ من ترسيخ ثقافة قَبول الآخر واحترام رأيه واعتقاده، وأيضاً لا بدَّ من التعاون على المستوى العلمي والأكاديمي من أجل عمل مشروعات وأبحاث علمية رصينة، تعمل على بلورة هذه القيم في صورة علمية صادقة وجادة، تدعِّم بالمنهج العلمي قيمَ التعايش المشترك التي دعت إليها جميع الأديان.
في السياق ذاته أوضح فضيلة المفتي أن ثباتَ القِيَمِ الأخلاقيةِ كفيلٌ بحفظ الأمن والأمان في المجتمع مهما اختلفت العقائد والأديان، وأن أيَّ عَبَثٍ بالمنظومةِ الأخلاقية التي تعارفَ الناسُ عليها سوف يؤدي إلى عواقب كارثية وخيمة؛ قائلًا: “من هنا فنحن حقًّا في حاجة إلى تفعيل تلك القيم وتحويلها إلى واقع ملموس في عصرنا الحاضر؛ بعدما تفاقمت المخاطر التي تُزكِي نيرانَ الكراهيةِ والتعصبِ والشقاقِ والطائفيةِ والتطرفِ والإرهابِ وتعتدي على الكرامة الإنسانية”.
وأكد أننا أحوج ما نكون إلى جهد كبير لترسيخ القيم والأخلاق وقواعد الذوق العام في المجتمعات من خلال المؤسسات الدينية والإعلامية والتعليمية والفنية بواسطة إجراء مبادرات تُفعِّل هذه القيم الراقية حتى نَئِدَ الكراهيةَ ونُحيي المحبةَ والسلامَ، مشددًا على أننا في حاجة إلى أن يتعاون إعلامنا المعاصر على الحب والإخاء لا على نشر الكراهية وإذكاء نار الفرقة، وفي حاجة إلى أن يدرِّب تعليمُنا المعاصر الطلابَ صغارًا وكبارًا على أن يتكاملوا في اتفاقهم واختلافهم، كما أننا في حاجة إلى أن يكون منطلق دعاة حقوق الإنسان في العالم دعوتهم إلى العناية بالإنسان ومساندته بصرف النظر عن اعتبارات الجنس واللون والدين، وفي حاجة إلى النظر بعين الاعتبار إلى المشترك الإنساني من ناحية، وإلى احترام الخصوصيات والتنوعات من ناحية أخرى. نحن في حاجة إلى أن تنشر مؤسساتنا السلام والمحبة والحوار قولًا وفعلًا بينها.
وأوضح أن علماء الدين الإسلامي يحملون على عاتقهم نشر الصورة الحقيقية عن الإسلام التي نأمل أن تُعطي العالم فهمًا أفضل عن مبادئه وقيمه الأخلاقية السامية، وإن هذه المشاركة لتأتي في هذا السياق.
وأشار فضيلة المفتي إلى أن “دار الإفتاء المصرية” سعت في الفترات السابقة بخُطًى حثيثةٍ لجمع الشمل وتوطيد الأخوة ونبذ الكراهية في مجال الإفتاء؛ فأنشأنا الأمانةَ العامةَ لدور وهيئات الإفتاء في العالم لنتحاورَ ونتعاونَ على البر والتقوى، ونجمع شملَ المفتين على المحبة والسلام ونبذِ الكراهية محليًّا وعالميًّا. كما حرصت دار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم على ترجمة هذه القيم في فاعلياتها وفتاويها وبياناتها ومبادراتها ومؤتمراتها العالمية المختلفة.
وأضاف أن الدار أنشأت مراصدها وأطلقت مبادراتها لخدمة هذا المقصد النبيل؛ فأنشأنا على سبيل المثال مرصدًا لفتاوى الكراهية التي يحاول المتطرفون بثَّها في العالم ويَنسبونها زورًا وبهتانًا للإسلام.
وأوضح أن هذا المرصد أُطلق باسم “مرصد الفتاوى التكفيرية والشاذة”، وذلك بالتوازي مع مرصد آخر يرصد ممارسات الكراهية في ثوبها الآخر، وهو مرصد الإسلاموفوبيا، وهو يُعنى بما يسمى بالكراهية ضد الإسلام والمسلمين في العالم، كما أطلقنا المؤشر العالمي للفتوى لقياس ثمار الوسطية والكراهية في مجال الإفتاء. ولقد آتى كل من المرصدين والمؤشر أُكُله طيبًا خلال فترة العمل السابقة وتوجت هذه الجهود بإنشاء مركز سلام لدراسات التطرف، والذي يسعى أن يكون مظلة جامعة لكل مراكز الأبحاث المعنية بمكافحة التطرف وقاية وعلاجًا.
وفى ختام كلمته أكد فضيلة المفتي، أننا نحتاج إلى مناهج تعليمٍ مساندةٍ ومنابرَ إعلامٍ مُعِينة، وأن تتبنى العمل بنِتاج هذه المبادرات كلُّ أسرةٍ، بل يتبناها المجتمع بكل مؤسساته الحكومية والمدنية لكي تُثمر الثمرةَ المرجوةَ، معربًا عن تطلعاته نشر ثقافة التعايش والأمن والسلام بين أبناء الإنسانية جميعًا، وأن يقوى عزمُنا في اقتلاع جذور التعصب والتشدد والعنف من عقول أبنائنا من كل دين وطائفة؛ لأن الإنسانية بحاجة إلى العيش في أمن وسلام وتعاون لكي يعم الخير على الجميع من الجميع.